أمضى أشعب يجول في طرقات جيئة وذهابًا بحثًا عن وليمة لكن دون جدوى فقد سدت كل الأبواب في وجهه وفي نهاية الأمر جلس على رأس الطريق مطرقًا مطأطئ الرأس وراح يقول في نفسه:
- قاتل الله التطفل! يذل صاحبه ويجعله في أسوأ حال
وبينما هو على هذه الحال سمع جلبة تأتي من خلفه فالتفت فرأى عشرة رجال مجتمعين فقال في نفسه:
- أخيرًا ضحك الحظ لك يا أشعب جاءك الفرج.
ولم يلبث أشعب أن قام مسرعًا وتسلل حتى اندس وسط هؤلاء وهو يقول في نفسه:
- أقسم أن هؤلاء ما اجتمعوا إلا لوليمة أو عرس فيه طعام لأحد الأثرياء..
ولم يمض كثير من الوقت حتى جاء رجل يقود هؤلاء الرجال ويمضي بهم في اتجاه زورق قد أعد لهم فقال أشعب لنفسه:
- وليمة ونزهة في وقت واحد؟! أحمدك يا رب..
ركب أشعب مع الرجال الزورق وانطلق بهم يمخر عباب البحر، وفي وسط البحر قام الرجل الذي كان يقود هؤلاء الناس وقيدهم بالحديد وبالطبع فقد قيد معهم أشعب. لم يكد الرجل يقيد أشعب بالحديد حتى أيقن أنه وقع في شر أعماله وأن هناك خطأ قد حدث ولم يمض وقت كثير حتى وجد أشعب نفسه في بغداد وجهًا لوجه أمام الخليفة.
أخذ الخليفة يدعو الرجال بأسمائهم واحدًا بعد واحد فيأمر بضرب أعناقهم على الفور فقد كانوا من زعماء الفتنة في البلاد وفي الحال كان السياف يقطع الرقاب كما لو كان يقطف وردًا من بستان!
رأى أشعب الرقاب وهي تطير من حوله فامتلأ قلبه رعبًا وأدرك أنه هالك لا محالة بدون ذنب جناه.
اقترب الخليفة من أشعب ونظر إليه بإمعان حيث لم يكن من المطلوبين للعدالة وقال في دهشة:
- من هذا؟
فرد الجنود قائلين:
- و الله ما ندري غير أنا وجدناه مع القوم فجئنا به!
ازدادت دهشة الخليفة والتفت إلى أشعب وقال مستنكرًا:
- من أنت؟ وما هي حكايتك؟ تكلم قبل أن أطيح برقبتك!
لم يكد أشعب ينظر إلى وجه الخليفة ويرى الشر يتطاير من عينيه حتى ارتعد من الرعب وارتعشت ساقاه وقال متلعثماً :
- والله يا أمير المؤمنين أنا لا أعلم عن هؤلاء الناس شيئاً وليست بيني وبينهم صلة!
نظر الخليفة بغضب إلى أشعب وقال :
- إذاً ما الذي جاء بك معهم؟ وكيف التقيت بهم؟
سالت الدموع من عيني أشعب وقال وهو يُغالب دموعه :
- إنني رجل طفيلي وقد رأيت هؤلاء القوم مجتمعين فقلت لنفسي : إن هؤلاء ما اجتمعوا إلا لوليمة أو عُرس فيه طعام و أنا منذ يومين لم أذق طعم الطعام!
لم يكد أشعب يُتم كلماته تلك حتى صاح الخليفة قائلاً :
- عذرك هذا غير مقبول
ثم صاح صيحة أشد في حُراسه قائلاً
- أيها الحراس اضربوا عُنق هذا الطفيلي حتى يكون عبرة لكل طفيلي وليعلم كل إنسان أن من تدخل فيما لا يعنيه طارت رقبته ولم يبق جزء سليم فيه!
رأى أشعب الجدية على وجه الخليفة فصاح من شدة الخوف قائلاً:
- أيها الخليفة أعزك الله لي طلب وحيد قبل أن تنفذ في حكم الموت والاعدام!
قال الخليفة: ما هو؟
فأجاب أشعب وهو ينتحب:
- إذا كنت فعلاً قد قررت قتلي فاضرب بطني بالسيف وليس عنقي!
اندهش الخليفة وقال:
- ولماذا يا رجل نضرب بطنك بالذات بالسيف؟
فأجاب أشعب:
- لأن بطني هو الذي ورطني هذه الورطة ولذلك وجب الانتقام منه!
وما أن أتم أشعب كلامه حتى انفجر الخليفة بالضحك و أيقن أن هذا الرجل خفيف الظل ليس من دعاة الفتنة فأمر السياف أن يتركه وقال مخاطباً أشعب :
- كاد طمعك يُوصلك إلى حتفك لولا لطف الله وكرمه بك ثم أقبل الخليفة على أشعب بوجهٍ طلقٍ بعد أن تأكد من براءته وربت على كتفه قائلاً
- هل لك في (( ثريدة )) مغمورة بالزبد مشققة باللحم يا أشعب
فرد أشعب قائلاً :
- و أُضرب كم ؟
فكتم أمير المؤمنين ضحكة وقال :
- بل تأكلها من غير ضرب.
فنظر أشعب إلى الخليفة في ارتياب ثم قال :
- أخبروني- بالله عليكم كم الضرب حتى أتقدم على بصيرة ؟ ضحك الخليفة و أحس بالسعادة تغمره وراح يتبادل مع أشعب الحديث وكان لأحاديث أشعب ونوادره أكبر الأثر في التسرية عن نفسه ثم سأل الخليفة أشعب :
- سمعت ُ عن طمعك فأحب أن أسمع منك بنفسي عن مقدار ما بلغته نفسك من الطمع!
ضحك أشعب وقال :
- والله يا أمير المؤمنين ما رأيت اثنين يتساران فيما بينهما إلا ظننتُ أنهما يوصيان لي بشيء!
ازدادت رغبة الخليفة في الحديث إلى أشعب و أحب ممازحته فأشار إلى وزيره إشارة يفهمها وعلى الفور اقترب الوزير من أشعب وقال :
- يا أشعب إنك سترحل بعد قليل وقد أحببتك و أحببت أن تترك لي ذكرى أذكرك بها ويستحسن أن تهديني خاتمك هذا!
اضطرب أشعب وقال في ثلعثم :
- الأفضل أن تتذكرني بأنني منعتك هذا الخاتم لأن هذا أبلغ في الذكرى من إعطائك إياه.
ابتسم الخليفة من فطنة أشعب وأراد أن يستزيد من الضحك فقال في سخرية:
- ولكني سمعت أنك مشغول بالموائد والولائم ولا شأن لك بالعلم والتعلم على الرغم من أن العلم نور!
رد أشعب في ثقة قائلاً:
- لا تقل هذا يا مولاي فقد حفظت حكمتين عظيمتين تعلمتهما من أبي وفيهما فلاح الانسان في الدنيا والأخرة
سأل الخليفة في اهتمام:
- وما هما هاتان الحكمتان؟ شوقتني لمعرفتهما؟
شرد أشعب وأخذ يجيل نظره في كل اتجاه ويعصر ذهنه كي يتذكر شيئًا ذا قيمة ولما رآه الخليفة شارد الذهن صامتًا سأله قائلاً:
- ماهذا يا أشعب هل ستبقى ساكتًا هكذا طويلاً؟
رد أشعب في هدوء:
- معذرة يا مولاي فقد نسيت واحدة!
ابتسم الخليفة ضاحكًا وقال:
- هذه واحدة نسيتها فما بال الثانية؟
وفي ابتسامة رد أشعب قائلاً:
- أما الثانية فقد نسيها أبي.
لم يكد أشعب يتم كلامه حتى انفجر الخليفة بالضحك وأمر لأشعب بجائزة كبيرة.
حمل أشعب الجوائز والعطايا عائدًا إلى بيته وهو يتفكر فيما حدث وأنه كان سيفقد حياته ويدفع عمره ثمنًا لطمعه لولا لطف الله وعنايته فقال في نفسه:
- هذه أخر مرة أعرض فيها حياتي للخطر.
ثم ذرف دمعة سالت على خده ومضى في طريقه مسرعًا حتى وصل إلى بيته !
قص أشعب ما حدث على زوجته فحمدت الله على نجاته وعاتبتهُ على فضوله وتطفلهِ الذي كان سيودي بحياته لكنه أكد لها أنها كانت تجربة قاسية تعلم منها ألا يتدخل فيما لا يعنيه ولما انتهى أشعب من كلامه رأى جماعة كبيرة من الناس تقف في صفوف ويلبسون أزياء موحدة فجرى مسرعا نحوهم وهو يقول :
- والله ما خرج هؤلاء إلا لحفل أحدِ أبناء السلطان ! هرولت الزوجة خلف أشعب الذي كان قد اختفى عن الأنظار وتسلل بين الصفوف فقالت وهي تضرب كفاً بكف :
- حقاً إن الطمع آفة كبيرة لكن أكبر آفات الإنسان النسيان